top of page

رغم أنه ليس من عادتى مراجعة ما كتبته بل أكاد أن أعترف بأننى ربما لخوفى من أن يكون قد خاننى تعبير عن الفكرة أو خذلتنى اللغة التى أحبها بأى شكل من الأشكال بلاغيا كان أو نحويا أو حتى إملائيا؛ فإننى أعدت قراءة مقال قديم من مقالات ما بعد الثورة نشر لى بجريدة الوفد وعنوانه "مصر تخرج ما فى جوفها" بعد أن عاتبنى فيه قراء كثيرون -جُلّهم يقيمون إقامة شبه دائمة خارج مصر بينما قلوبهم معلقة بها- لأنهم يرون أننى كنت قاسيا ومتشائما بظنّى أنه سوف يطول الانتظار حتى تتخلص مصر مما تعفن فى أمعائها وأخرجته الثورة فى عملية تنظيف منطقية لجوفها وكأنها شربة الخروع الثقيلة الكانسة الكاسحة المطهرة.

 

لكن ما حدث فى الأيام الأخيرة جعلنى بعد مراجعتى لما ظننته اعتقادا وبُحت به كتابة؛ أعود فأتشبث برأيى أن مصر لا تزال بحاجة لأن تخرج ما فى جوفها، خاصة وأن سموما جديدة قد تسربت إليها. أو بالأصح لأن السموم القديمة التى لم تتخلص منها قد أضيف إليها الآن تعفن آخر من نوع جديد أكثر ضررا وأشد فتكا فاستقر فى جوفها وعقلها وبدأ يظهر على جسدها لا لكى تتخلص منه وتتطهر؛ بل كتحذير وكإعلان عن مرض مزمن خطير وصل خطره إلى حدّ أنه قتل وأهلك وأودى بعدد كبير من خيرة شبابها وأكثرهم براءة وطهرا ورومانسية ثورية. وأن عدم اكتمال فعل الثورة أو إجهاضها الذى أدى إلى إخراج جنينها "الخديج" أو الناقص الذى لم يكتمل بانسحاب الثوار متراجعين قبل أن تعلن "الحالة الثورية" وتطبق "شرعيتها" فتحدث المحاسبة الشاملة ويتم التطهير الكامل كى يتخلص الجسد المصرى من كافة الشوائب والأدران والقاذورات والبلايا التى استكنت داخله وتمكنت منه طيلة العهود القدية وكأنها السرطان المتشعب المتشبث الخبيث الذى لا يصلح الخلاص منه إلا بالاستئصال التام الذى لم يكتمل. وبالتالى فلم يكن من الغريب أن تظهر أعراضه على شكل صرخات تشكو مطالبة بضرورة العلاج وأهمية الإسراع فيه. إلى جانب بثور ودمامل وقروح ظهرت كطفح جلدى عليه فاختلطت روائحها وعفنها بدماء طاهرة لأبنائها سالت. مثلما تداخلت أصواتها المنكرة وهتافاتها الفوضوية مع هتافات أنقى وصيحات أشرف وآهات أطهر –أطلقها من يثورون عن إيمان ويضحّون عن عقيدة- لكنها ضاعت وسطها وتلاشت داخلها وتحت تأثيرها وفقا لقدرة "الرائحة الخبيثة" على السرعة وقوة النار المشتعلة على الانتشار. وبراعة الشر فى الغواية والفساد فى جمع الأعوان. وهكذا سقط محمد الجندى شهيدا ومحمد كريستى شهيدا وجيكا البرىء شهيدا مثلما سقط إخوة لهم نعرفهم جميعا من قبل أو فقدوا عيونهم وأجزاء من أجسادهم. وكذلك سقط شهداء بورسعيد!

 

ولأن ظاهرة البثور والقروح والدمامل والخراريج على جسد الثورة ووسط حركة الثوار -الذين لا يقتلون ولا يشعلون النيران ولا يهدمون ولا يتعدون بل يكتفون بسلاح الحناجر وقذائف الكلمات– قد طالت واستفحلت أصبح رصدها واجبا وتحليلها فريضة. وليكن أولها هو أشدها طرافة رغم الكرب. وأكثرها غرابة وإضحاكا رغم الفجيعة؛ كانت ظاهرة حمادة الذى سحله أفراد من الشرطة فى فعل علنى نقلته كاميرا "مجهزة مسبقا ومثبتة فى موضع الحدث" لا أقول إن ما بثته كان مصطنعا أو مفبركا؛ بل هو حقيقة لكن لحدث "ناقص" لم يعرض بكامله وإن كان السحل هو نهايته أو آخر حلقاته. ذلك لأن "حمادة" –الذى ذكرنى بلعبة لطفل من بلاستيك كانت تعرض فى وعاء صغير مملوء بالماء وهو يسبح عاريا بينما ينادون عليه ضاحكين: قرب قرب شوف حمادة بيلعب"– شوهد كما سجلته الكاميرات وهو يهتف فى مظاهرة "بابا مبارك" أمام المحكمة فى أثناء جلسات محاكمته وعقبها. مثلما شوهد فى مظاهرات أخرى مضادة ونقيضة وبما يثبت أنه "تظاهرجى" منظم ومحترف!

 

وحمادة هذا من وجهة نظرى هو نموذج للمواطن المصرى الغلبان البسيط المكافح لكن ليس الساذج أبدا بل الذى ربما كان ساذجا و"بعبله" عندما ألقى به جنوب مصر أو قذفه صعيدها -الحزين الجاف المنسى عمدا أو المهمل من الحكام السابقين بإرادة جائرة فاسدة– إلى وسط القاهرة "المدينة التى بلا قلب" كما وصفها الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى؛ حيث شيطنته وعلمته كيف يكون تحت ضغط الحاجة وقسوة الغربة كذابا وموالسا ومتملقا ومتلونا. وكيف يختطف منها لقمته الجافة وبشراسة ليعيش. مثلما علمته -وهو الواضح الصريح المندفع ككل ناسه– أن يحفظ قاموس اللغة الجديدة المنافقة والمتسولة. وأن يجيد كلمات وعبارات جديدة لم تعرفها قريته مثل: فهلوة وياكلها والعه وقلّبه وخده على رجلك وامسح له وكل خيره واللى تغلب به العب به واللى يتجوز أمى أقول له يا عمى و خده على قد عقله وإن كان فى بلدك ثور حش وادّى له... رغم أن هذه بالتحديد يمكن أن يكون قد تعلمها منذ مولده كما تعلمناها نحن غالبية المصريين!.. كما ولّدت القاهرة لديه حقده الطبقى وأشعلته نارا يترصد بها كل الأسياد والمترفين والمتسببين فى بؤسه. مثلما علمته أيضا أن يلعب على الجميع وعلى حد سواء: الفلول والثوار والشرطة والفقراء والبهوات.. المتدينين ومن يجاهرون بالكفر أيضا. وقد رأينا كيف أطلق لحيته لتنفع فى كل الأوقات وتفسر حسب كل موقف وفقا لتغلب رجاله وقوة أنصاره!

 

(شهدت شابة صحفيّة ذُكر اسمها فى الصحف إنها سمعت جيرانه يقولون عنه إنه محترف مظاهرات)... الأمر الذى يستدعى معاملته وتحليل سلوكه باعتباره كذلك. ولماذا لا يكون هكذا إذن وقد شهدوا أنه يتقاضى فى اليوم ثلاثمائة جنيه على الأقل من محرضيه.

 

(ولنلاحظ هنا أننى لا أطعن مطلقا فى ما شاهدته بعينى من واقعة السحل؛ بل أتناول دوافع خروج الرجل وتكبده المشقة تاركا أكل عيشه ووراءه بنات فى سن الزواج ينتظرن ما يرزقه الله به فى يومه. ثم وقوفه وتنطيطه أمام قصر الرئاسة وما يمكن أن يكون قد فهمه أو استوعبه –مثل غالبية من المواطنين البسطاء– من شئون التأسيسية ومواد الدستور ومناقضات جبهة الإنقاذ)!؟

 

علاوة على كون التظاهر قد صار عند الكثيرين من متعاطيه مثل الإدمان إن لم يكن إدمانا بالفعل. وبناء عليه يمكن تفسير تقاعس أو إهمال رجال أمن الدولة فى عهد مبارك عن المساس بعدد معين من هؤلاء المتظاهرين والمعتصمين المحترفين الذين اعتبروهم مثل "مدمنين للوقفات والتظاهرات" إدمانا سياسيا غير ضار. لا عن تشكيك فى وطنيتهم بل لأنهم يعرفون أن ضررهم محدود وأن دورهم يقف عند هذا الحد –حدّ الهتاف من الأعماق- لا يتخطاه إلى فعل مؤثم مجرم مثل الانتماء إلى تنظيم سرى أو حركة تمرد فعلية يمثل أو تشكل خطرا على النظام. وبالتالى كانوا يتركون أحرارا وفقا لقاعدة منطقية يعرفونها جيدا وهى "سيبوهم ينبحوا لحد ما يتعبوا.. شوية ويروحوا)!

 

لكن حمادة بالطبع يختلف عن أولئك المدمنين المخلصين للتظاهر فى أنه يقبض وهم لا يقبضون. وأنه عميل وهم ليسوا بعملاء. وأنه يخرّب وهم ليسوا كذلك. وأنه كاذب وهم بالفعل صادقون!.. كما أن الحياة فى القاهرة القاسية وسط وحوشها قد علمت حمادة أن يصحّر قلبه فيجعله كالأسمنت الذى يشتغل به فى مهنته كمبيض محارة. وإن كان قد ترك فيه قطعة صغيرة حية نابضة فقد حجزها لبيته وبناته كى لا يصبح "واكل ناسه" فيعيّرونه فى الصعيد كما عيروه حينما برّأ الشرطة فى التحقيقات الأولى ولم يحلّوا عنه إلا عندما تخلى عن أقواله مؤثما لرجالها. كما صار حمادة بفعل هذه الحياة ممثلا كبيرا. وقد كان من الممكن أن يكون كذلك حقا وأن نكسبه كنجم كوميدى لو كان قد تلقى حقه الشرعى من التعليم والرعاية -مثله مثل كثير من الموهوبين المطمورين والموءودة مواهبهم فى مصر– والدليل على ذلك قد رأيناه فى حديثه على الشاشة متنقّلا ما بين الضحك وما بين البكاء. تلمع عيناه بالدموع فى لحظة عندما يُضغط على زر الوطنية فيصرخ مصرّحا بـ"مصريته" ونادبا وطنه الذى يضيع وبلده التى تتهاوى –فى لغة غريبة عليه ومفردات لم يألها رفاقه فى المهنة– ثم يجهش بالبكاء أكثر وهو يتحسر على الثورة التى "اختطفت" والشهداء من "رفاقه" الذين رآهم يسقطون. وبعد ذلك وفجأة ينتقل إلى الدعابة منشرحا وإلى الضحك مسرورا أى سرور!

 

أما نحن فرغم إعجابنا ببراعة الأخ حمادة وفهلوته التى علمتها له الأيام القاسية وعوّده عليها الزمن المرّ؛ لا يجب أن ننسى أنه صار هكذا وصار معه الكثيرون من "حشو المظاهرات" وعناصر ومواد ومفردات التخريب الذين اختلطوا بمفردات الثورة وشوهوا ملامح الثوار وألصقت بناء على وجودهم التهم بالأبرياء. لا يجب أن ننسى أنهم هم الآخرون ضحايا يحتاجون إلى ما قامت الثورة من أجله وما لا تزال مطالبة به. وأنه –وقد بدأ عاملا شريفا فى طائفة المحار– لم يهجر الجير والجبس والأسمنت ولم يعدل عن مهنته التى يحبها بكل تأكيد إلا يأسا من توقفها وضيقا فى الرزق الآتى من خلفها بعدما تعطل البناء فى البلد وتوقف مثل غالبية ما توقف من صنع ومهن وسياحة وأعمال. كما لم تفارق لسانه كلمات يحبها مثل: ميزان الميه والمسطرين والمونة ويتجه إلى كلمات جديدة ترضى حقده الطبقى المكبوت وثورته الإنسانية التى كانت مقموعة فلم يستطع أن يوجهها إلى طغاته الأصليين وإنما استبدلها بفعل "تعويضى" يشتم به رئيس بلاده المنتخب. مثلما سبق وشتم قاد جيشه ورئيس المجلس العسكرى الذى اتخذ قراره التاريخى –رغم كل الأخطاء– بحقن الدماء!. كما أنه هو نفس حمادة الذى فى وقت اللزوم أثناء الثورة كالَ لمبارك ورجاله سيلا منتقى بعناية من ألفاظ السباب. ثم هو الذى رأيناه ملتذا باعتذار وزير الداخلية له وسيظل يذكره مزهوا متفاخرا طيلة حياته بعد أن جعلوه ولا الزير سالم الذى يعشق سيرته. ولم لا وقد هاجم قصر الرئاسة وسبّ الرئيس الشرعى المنتخب ثم شاهد الضباط يحايلونه والوزير اللواء ينفحه شقة من بعد أن كان ينادى أمين الشرطة قائلا: يا باشا، وكان بنطلونه يسقط وحده لو ألقاه حظه العاثر أمام حضرته بينما يداه ترتجفان وهو يفتش فى جيوبه عن "البريزة" كى يتقى بها شره!

 

متى يعرف حمادة إذن أن هذه الثورة قامت لأجله وأنه يشترك فى ملكية قصر الاتحادية، وأن مدرعة الشرطة وظيفتها الأساسية أنها تحميه وأنها لن تعود أبدا وحشا لتخويفه وإثارة رعبه. وأن لهجته هى الصعيدية ولسانه لا ينبغى أن يلويه ناطقا بلهجة أهل البندر. وأن ناسه فى الصعيد يفخرون بكونه أسطى ومعلم محارة. وأن بناته كنّ يردنه مرتفعا سامقا على سقالة عمارة لا ساقطا تحت أقدام الشرطة بعد أن ضبطته متلبسا بتركه "المسطرين" وإمساكه بالطوب؟!

 

  • Wix Facebook page
  • Wix Twitter page
  • Wix Google+ page

الآراء الواردة تعبر عن رأي كاتبها وليس الجريدة

د.أسامة أبو طالب

حمادة يلعب؟!

نشرة الأخبار

مقالات الكتاب

 جريدة الشارع المصري © جميع الحقوق محفوظة

GET MORE FROM THE TEAM:

  • Instagram Clean
  • Facebook Clean
  • Twitter Clean
bottom of page