top of page

إن جريمة التحرش الأخيرة التى وقعت فى ميدان التحرير وعلى الرغم من أنها لم تكن الأولى من نوعها إلا أنها أدت إلى صدمة عارمة للمجتمع المصرى كله ربما للوحشية التى نفذت بها الجريمة، أو للتوقيت حيث جاءت بالتزامن مع الاحتفال بمراسم تنصيب رئيس مصر المنتخب المشير: عبد الفتاح السيسى وتأهب الشعب لبداية مرحلة جديدة تتحقق فيها أحلام وآمال ثورتى 25 يناير، 30 يونيو وتنتهى فيها مشاهد وأحداث قاسية سَئِمها المصريون طوال الثلاث سنوات السابقة، أو للتعاطف المتزايد مع المرأة المصرية سواء من الشعب أو من الدولة ومؤسساتها خاصة بعد دورها البطولى الذى قامت به فى الدفاع عن الوطن فى مِحنَتِه الكبرى خلال السنوات الأخيرة ومشاركة المرأة بكثافة فى ملحمة 30 يونيو وفى الاستفتاء على الدستور وفى الانتخابات الرئاسية هذا الدور الذى جعل الرئيس يعتمد عليها ويخصها بالنداء قبل الاستفتاء والانتخابات وبالشكر بعدهما فبدلاً من مكافأتها برفع كل أشكال الظلم والتميز التى تعانيه جاءت هذه الجريمة البشعة بمثابة عقوبة لها من قوى الظلام الموجودة داخل المجتمع التى استهدفت رجال الجيش والشرطة والأقباط من قبل.

- وبغض النظر عن أن هناك مؤشرات ودلائل كثيرة تؤكد أن هذه الجريمة مدبّرة والهدف منها سياسىٌ بالدرجة الأولى يهدف إلى إحراج الدولة ورئيسها الجديد أمام الشعب الذى أحبه وفرح بفوزه ليفسد عليه فرحته أمام العالم ليعطى انطباعاً سلبياً عن إدارة مصر الجديدة، وعلى الرغم من تعدد الأسباب التى أدت إلى ظهور مثل هذه الجرائم فى بلدنا، فمن وجهة نظرى أن من أهم الأسباب التى أدت إلى الصدمة التى أصابت المجتمع بعد هذه الجريمة هى أنها كشفت ما يعانيه مجتمعنا من تراجع أخلاقى وفساد نفسى يتعارض مع ثقافتنا الـ«سبع ألفية» بمكونتها الفرعونية والقبطية والإسلامية والمعاصرة، ويتعارض أيضاً مع الصفات الأصيلة للشخصية المصرية التى كونتها هذه الثقافة، ومع القيم والمبادئ التى تدعو إليها جميع الأديان التى وجدت على أرض مصر وبصفة خاصة الإسلام.

- فقد روى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخْلاَقِ» رواه مالك فى الموطأ، والنبى فى هذا الحديث يؤكد أن الغاية العظمى من بعثته هو وجميع الأنبياء والرسل عليهم جميعا الصلاة والسلام هى: تدعيم الأخلاق البشرية، يقول أهل اللغة إن لفظ «إنما» يفيد الحصر كأن الحديث يحصر المهمة التى بعث النبى لأجلها فى تدعيم الأخلاق. وإذا نظرنا إلى النصوص الشرعية آيات القرآن وصحيح الأحاديث والأوامر والنواهى التى وردت فيها سواء فى العقائد أو العبادات أو المعاملات وهى متباينة فى جوهرها ومظهرها وجدنا أنها تلتقى فى غاية ومقصد واحد وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ حُسْنَ الأَخْلاَقِ» فجميعها تسعى إلى تعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة وأن يظل مستمسكاً بهذه الأخلاق، مهما تغيرت أمامه الظروف. فعلى سبيل المثال لا الحصر عندما تكلم القرآن عن العبادات الأساسية فى الإسلام:

فذكر الحكمة والغاية من إقامة الصلاة قال تعالى فى سورة العنكبوت آية 45: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ» فالإبعاد عن رذائل الأفعال والأقوال هو حقيقة الصلاة، وقد جاء فى الحديث القدسى الذى يرويه النبى عن ربه فقال: «ليس كل مصلٍ يصلى، إنما أتقبل الصلاة ممَّن تواضع بها لعظمتى، ولم يستطل بها على خلقى، وكفَّ شهواته عن محارمى، ولم يبت مصراً على معصيتى، وقطع النهار فى ذكرى، وأطعم الجائع، وكسا العُريان، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لى، وعزتى وجلالى إن نور وجهه لأضوأُ عندى من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلما والظلمة نورا، يدعونى فألبيه، ويسألنى فأعطيه، ويقسم علىّ فأبرُّه، أكلؤه بقربى، واستحفظه ملائكتى، مثله عندى كمثل الفردوس لا يمس ثمرها ولا يتغير حالها».

وعندما تكلم سبحانه وتعالى عن الغاية من الزكاة قال تعالى فى سورة التوبة آية 103: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» فالغاية من الزكاة هو تطهير وتزكية النفس بحسن الخلق لذلك وسع النبى صلى الله عليه وسلم دلالة لفظ الصدقة ليشمل مكارم الأخلاق فقال فى ما رواه عنه البخارى: «تبسمك فى وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل فى أرض الضلال لك صدقة، وبصرك للرجل الردىء البصر لك صدقة، وإماطتك الأذى والحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك فى دلو أخيك لك صدقة».

بل وجعل سبحانه وتعالى دليل وجود الإيمان وقوته فى القلوب مرتبط ارتباطا وثيقا بالأخلاق وليس بظاهر العبادات بمعنى أن سوء الخلق دليل على ضعف ونقص الإيمان حتى إذا كان الإنسان يمارس العبادات ولذلك قال صلى الله عليه وسلم فى ما رواه عنه الحاكم والطبرانى: «الحياء والإيمان قرناء جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر»، وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وحج واعتمر، وقال إنى مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» إن المتأمل لهذه الآيات والأحاديث يدرك أن عين الله عز وجل تنظر وتقيّم وتحاسب بناء على الغاية التى لأجلها أنزل الكتب وأرسل الأنبياء ألا وهى إصلاح الإنسان وأخلاقه لتحسن معاملاته مع الناس ويتوقف عن إيذاء من حوله فى الكون فهذا هو الأساس فى العقوبة والمكافأة وليس مجرد ظاهر العبادات وقد جاء أناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: «من أحب عباد الله إلى الله تعالى؟ فقال الرسول: أحسنهم خلقا» رواه الطبرانى. تأمل لم يقل أكثرهم صلاة أو زكاة أو صيام وإنما ذكر الغاية العظمى من العبادات وهى الأخلاق.

وعلى الرغم من كل ما ذكرناه من آيات وأحاديث تؤكد أهمية الأخلاق فى الإسلام فإن مجتمعنا يعانى انهيار أخلاقى فى السلوكيات وخاصة عند بعض المتدينين بل وبين بعض الأشخاص الذين يدعون أنهم دعاة وشيوخ وهذا الانهيار الأخلاقى يظهر فى غلظة الطباع وبذاءة اللسان والشتائم والسباب الدائم للآخرين وفساد المعاملات وتتعجب عندما تجد بعض الحسابات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعى تويتر وفيس بوك وهى مزينة بصور دينية سواء المساجد أو الكعبة ومليئة بالآيات القرآنية وعلى الرغم من ذلك تجد صاحبها يستخدم أسوء الألفاظ من شتائم وغيرها فى حواره مع الناس بل وقد يتبع الآية القرآنية بألفاظ غاية فى البذاءة والشر وهذا من وجهة نظرى يرجع لثلاثة أسباب:

أولاً: أن معظمهم تدين وتعلم الدين على يد ما يسمى: «الظاهرية الجدد» وهى مدرسة تعنى بظاهر النصوص الجزئية وتتشبث بها وتفهمها فهما حرفياً بمعزل عن المقاصد والغايات التى شرع الله لأجله العبادة وأنزل الأحكام فالصلاة بالنسبة لهم مجرد الإتيان بالحركات الظاهرة من ركوع وسجود والصيام بالنسبة لهم مجرد امتناع عن الأكل والشرب ولا يتعدى الأمر عندهم ذلك ومع الأسف معظم من يتصدر للخطاب الدينى المعاصر يتعامل بهذا المنطق الاهتمام بظاهر الأعمال وعدم الالتفات لجوهرها، وعند التعامل مع الإنسان لا يلتفت إلى إصلاح جوهره - النفس والعقل والقلب وإنما فقط يهتم بالمظهر فالعفة عندهم العفة الظاهرية متمسلة فى الملابس المحتشمة وما شابه ولا يهتمون بعفة الجوهر وعفة النفس ولأن إحداث تغير فى الظاهر أسهل بكثير من إصلاح الجوهر فيكتفى به معظم الناس قال تعالى فى سورة الحجرات آية 14: «قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»

ثانياً: تبرير سوء الخلق بصعوبة الظروف مثل من رأيناهم يبررون جريمة التحرش بأن بعض النساء قد يرتدين ملابس ملفته وهذا مبررٌ مرفوض بل نقول وقبيح فإن ارتكاب الجرائم وعدم الالتزام الأخلاقى لا يبرره أية ظروف أو صعوبات بل إن القرآن أشار إلى صعوبة الظروف التى قد تصاحب التمسك بالأخلاق فقال فى سورة العنكبوت آية 2، 3: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» وفى قوله من سورة التوبة آية 16: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» وقول الله من سورة البقرة آية 214: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» فجميع هذه الآيات تؤكد أنه لا توجد أية ظروف أو صعاب تبرر للإنسان الاعتداء أو سوء الخلق بل إن هذه الآيات تؤكد أن جوهر الاختبار فى الدين أن يمر الإنسان بهذه التحديات دون أن يتخلى عن إيمانه ومبادئه فالفقر لا يبرر السرقة والظلم لا يبرر الفجور وتأخر أو صعوبة الزواج لا يبرر التحرش والفواحش.

ثالثاً: ظن بعض المسلمين خطأً وذلك نتيجة لما أصاب الخطاب الدينى من عطب وانحراف - أن حسن الخلق مطلوب فقط فى دائرة المسلمين أما عند التعامل مع غيرهم فهو غير مطلوب وهذا ليس فقط انحراف فى الفهم وإنما هدم لمبدأ التعايش وإعمار الأرض الذى أمر به الإسلام فى قوله تعالى من سورة الحجرات آية 13: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» فكيف تتعايش مع الناس وأنت لا تحسن معاملاتهم، يجب علينا جميعا أن نعلم أن المسلم مكلف أن يلقى أهل الأرض قاطبة بفضائل أخلاقية وسلامة صدر لا ترقى إليه شبهة فالصدق والسماحة والحب والوفاء والمروءة والكرم والتعاون.. إلخ واجب على كل مسلم تجاه كل إنسان بغض النظر عن انتمائه الدينى أو الفكرى قال تعالى فى سورة العنكبوت آيه 46: «وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».

- هذا هو ما يدعونا إليه الإسلام ويجب علينا جميعا - الدولة بكل مؤسساتها والشعب بكل طوائفه أن نعمل على إصلاح العطب الأخلاقى الذى أصاب المجتمع قال أحمد شوقى:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

 

 

ما الذى يُعصم فيه النبى [ من الخطأ؟


- بعيداً عن الجدل الذى أحدثه الملصق الشهير «هل صليت على النبى اليوم؟» الذى يعبر عن نوع من التدين سماه الشيخ محمد الغزالى رحمه الله عليه بالتدين المغشوش الذى ينتج عن انحراف فى فهم حقيقة الدين يدفع الناس إلى ممارسة التدين فى إطار شكلى، مع تعطيل كامل للمقاصد والغايات التى أرادها الله عز وجل من التدين، فنحن قبل أن نأمر بالصلاة على النبى باللسان، أمرنا أن نصلى عليه باتّباع ما جاء به من أوامر وأحكام وهذا هو دليل حبنا لله وللرسول قال تعالى فى سورة آل عمران آية 31: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»، وروى أبو الدرداء عن رسول الله فى قوله تعالى: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله» قال: «على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس» أخرجه الترمذى، وروى عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أراد أن يحبه الله، فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذى جاره»، فكان الأولى أن توضع ملصقات تسأل عن الصدق، وأداء الأمانة، وإتقان العمل، والمحبة، والنظافة، ومساعدة الضعفاء، والتوقف عن الرذائل، وبر الوالدين إلى آخر ذلك من الفضائل التى جاء بها النبى، لكن لأن أصحاب هذه الملصقات من أرباب التدين المغشوش فهم لم يسألوا إلا عن مجرد الصلاة باللسان فذلك مبلغهم من العلم، هذا بالإضافة إلى وجود شواهد تؤكد أن الأمر ما هو إلا محاولة شوهمية على أمل أن يتعاطف معهم الشعب مرة أخرى وهم واهمون.
- إلا أن هذا الجدل قد أوجد عدة تساؤلات بين الناس، فيما يخص علاقة المسلم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الإجابة على سؤال هام وهو: ما هى وظيفة النبى؟ وما الذى يجب أن يُعصم من الخطأ فيه؟ فهذه القضايا من بديهيات الدين، التى تعرضت لتحريف من أولئك الأدعياء المفسدين، الذين زعموا أن النبى يجب أن يحيط علمه بكل شىء، وأن تؤدى إلينا رسالته كل شىء، وأن يعصم من الخطأ فى كل شىء، فيتلوا علينا الكتاب والحكمة، ويدرس لنا اللغة والفلسفة، ويعلمنا الصناعة والتجارة والزراعة والطب، وكل ما يحتاجه الإنسان وهو بكل ذلك عالم لا يسرى إليه الخطأ والظن، ولا يبلغ منه الشك والوهم، وأرادوا بذلك أن يعطلوا عمل العقل، وهذا فهم غير صحيح.
- فالله عز وجل خلق الإنسان، وأراد له السعادة فى الدنيا والآخرة، ووهبه لتحقيق ذلك، أولاً: العقل البشرى ليهديه قصد السبيل، ويرشده إلى الصراط المستقيم، يتعرف به على مصالحه، ويتبين به منافعه الدنيوية، حتى يستقيم فيها أمره، وتنتظم أحواله، ويحقق التطور فى شتى مجالات الحياة، وعلم الله أن هذا المخلوق الضعيف لا ينال ذلك إلا بتمجيده، والإذعان له والاهتداء بهديه، وأن هذا العقل البشرى له حدود لا يتجاوزها، فهو يستطيع التعامل مع الدنيا، ولكنه لا يعرف المصالح الأخروية، والمنافع الدينية على أكمل وجه وأحسنه، فوهبه عقلاً آخر: هو الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل، فعمل الرسل إنما هو هداية الناس فى دينهم، وتمهيد الأمور فى حياتهم العامة، لينتهوا منها آمنين إلى الدار الأخرى لكيلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وقد علم سبحانه أن هذا لا يكون إلا إذا كانوا مبلّغين عنه بحيث يستطيعون أن يفهموا الناس دعوته، ويشرحوا لهم رسالته، ويقيموا عليهم حجته فاختار فى كل أمة رسوله إليها، بذلك مضت سنة الله فى الأولين حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليتمم للناس دينهم، ويكمل لهم شريعتهم فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وأوضح الحجة، وأقام الدليل، قال تعالى فى سورة النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا(163)وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(165).
- فإذا كان هذا هو عمل الرسل، فلا شك أن العقل يجزم بأنه تجب لهم العصمة من الخطأ والكذب فيما يبلغونه عن الله سبحانه، حتى تكون دعوتهم حقاً لا يشوبه باطل، ويقيناً لا مجال للشك فيه. فعصمتهم محدودة عقلاً بحدود الوحى، وأن العقل لا يوجب لهم العصمة فى غير ذلك فهو لا يوجب عليهم أن يكونوا أطباء أو فلكيين أو رياضيين لأنهم لم يبعثوا ليكونوا كذلك، وإنما بعثوا ليكونوا مبشرين لمن آمن بالله، ومنذرين لمن كفر به فأما فى غير ذلك فليس بينهم وبين غيرهم من الناس فرق قليل ولا كثير.
- وبالتالى فإن العلوم وغيرها من أمور الدنيا فإنما السبيل إليها سعى العقل، وكدّه فالله عز وجل لم يهبنا العقل عبثاً، فلو كان من عمل الرسل أن يرشدونا إلى كل ما نحتاج إليه فى هذه الحياة ما كان للعقل فائدة، ولا تثبت فى خلقه حكمة، والله عز وجل مبرأ من العبث فى أفعاله.
- والدلائل على أن عصمة النبى محدودة بحدود الوحى كثيرة، منها مراجعة القرآن له فى أمور وأحكام اجتهد فيها قبل نزول الوحى وأخطأ فى اجتهاده كما فى قوله تعالى من سورة الأنفال آية 67: «مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وأصل ذلك أنه استشار صاحبيه أبا بكر وعمر فى أسرى بدر، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية لأنهم العشيرة الأقربون، وأشار عمر بقتلهم، ومال النبى إلى قول أبى بكر فعاتبه الله فى ذلك بالآية، وكذلك عتاب الله سبحانه له فى مطلع سورة عبس فى قوله وتعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» والقصة مشهورة، ولعل فى قوله تعالى من سورة آل عمران آية 159: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ» دليل قاطع على ذلك، فقد علم الله أن النبى بشر يخطئ ويصيب، وأن العصمة التامة له وحده سبحانه، وأن رأى الجماعة إذا لم ينزل الوحى أقرب من رأيه صلى الله عليه وسلم إلى الحق فأمره بالشورى، وعرف النبى من نفسه ذلك فأتمر، وكثيراً ما كان يشاور أصحابه فى المسائل الخاصة، والعامة ويمضى برأيهم إلا أن ينزل وحى، وفى صحيح البخارى أنه استشار علياً وأسامة بن زيد فى أمر الإفك وعمل برأى أسامة حتى نزل الوحى فجلد القاذفين، وفى صحيح البخارى أيضا أنه استشار أصحابه فى الخروج إلى أحد فأشاروا عليه به، وقد عقد البخارى باباً فى صحيحه لما سُئل عنه النبى قبل الوحى فسكت أو قال لا أدرى ومنها حديث ابن مسعود: «أن رجلاً من يهود قال يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت صلى الله عليه وسلم.. فقلت إنه يوحى إليه فقمت مقامى فلما نزل الوحى قال: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» (سورة الإسراء: آية 85)، وقد صح فى غير واحد من كتب السنة، ومنهم مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وقوله: «ما كان من أمر دينكم فإلى وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم».
- كل هذه أدلة ظاهرة لا يشوبها الشك أن النبى لم يكن معصوما من الخطأ إلا فيما يبلّغ عن الله عز وجل وأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك فوكّل إلى الناس أمور دنياهم وأن الله عز وجل علم ذلك فأمره بالمشاورة، وهذا لا يضع من قدر النبى وإنما المبالغة والغلو والافتراء عليه هو الذى يحط قدره لأنه كذب عليه، قال تعالى فى سورة الكهف آية 110: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» فلم يجعل للنبى على الناس فضلا إلا بالوحى والرسالة.

  • Wix Facebook page
  • Wix Twitter page
  • Wix Google+ page

الآراء الواردة تعبر عن رأي كاتبها وليس الجريدة

خواطر حول تجديد الخطاب الديني

نشرة الأخبار

مقالات الكتاب

 جريدة الشارع المصري © جميع الحقوق محفوظة

GET MORE FROM THE TEAM:

  • Instagram Clean
  • Facebook Clean
  • Twitter Clean
bottom of page